Tuesday, April 19, 2016

الحواس العشر المفقودة - الرؤية




ماسة بشار الموصلي

منذ بداية عام 2011 لم يخلُ أي نص كتبته من مفردة «الحرب»، وحتى تلك التي عبرت فيها عن حالة «الحبّ» كانت تخفي في تلون الأبجدية المخطوط بها ذاك الشعور الرقيق الجميل لوني القلق والخوف اللذين يصحبان خطوات أي إنسان يعيش وطأة الحرب.
حالي تلك ليست استثنائية بل عامة، ومثلي كلّ الناس البسطاء العاديين ممن يكتبون للحبّ وما زالوا يملكون الحواس الخمس الأساسية التي لم يختلف حولها العلماء، أو واحدة أو اثنتين منها أو أنهم فقدوها جميعاً، مثلي كلّ من يقاوم بالحبّ جبروت الحرب سواء في الداخل أم في الغربة.
إن القلق والخوف كلاهما نتيجة غير مباشرة للهمجية اللعينة التي تسعى للفتك بإنسانية الإنسان والتي لم ترهق بعد من ولادة الشرّ بكل أشكاله، ليكون مولودها تارة رصاصة حقد وأخرى برميلاً من الكراهية، ومرات مرات كثيرة صاروخاً من الفصيلة ذاتها، أما أصغر مواليدها فيأتي على شكل الإهانة.
غير أنني وخلال السنوات الثلاث الأولى من المعايشة اليومية للحرب على الحريّة لم أنتبه إلى فقداني شيئاً من حواسي الخمس، خصوصاً أنني خرجت من أرض المعركة إلى غربتي بمظهري الكامل، فأصابع يدي ما زالت عشرة، وأذناي في مكانهما، وعيناي موجودتان، ولساني طليق.
هناك ـ في أرض المعركة ـ تستعين الحواس ببعضها البعض ليألف الجسد فقدان أي جزء يسير منها، فشدةُّ دويّ القذائف بإمكانها أن تمزق طبلة الأذن وأن تفتك بالعصب المسؤول عن السمع، لكن يبدو أن حالة اليقظة الذهنية يمكنها أن تحول الأصوات إلى صورٍ ترى بالعين، لتصبح هذه الأخيرة المساعد غير المباشر لتلقي السمع، وذلك عبر مشاهدة ردات فعل الآخرين بشكل سريع. وهكذا صرت أتلقف الأصوات بعيني وأقدّر قوة صوت القذيفة بعيون الآخرين، وأخمن أين سقطت لينطلق لساني باللعنات على راميها، والدعاء لمن سقطت فوقهم بالسلامة منها مثلما أنا سليمة تماماً.
ولأن عينيّ صارتا تمارسان في الوقت ذاته عمل الحاستين البصر والسمع، فقد ظهر عليهما جحوظ أثر في نسبة الرؤية من كثرة الحملقة، ولم أعط هذا الأمر أي اهتمام في ذاك الحين لأنني كنت بحاجة ملحة لأن أعتمد على بصري كي أدقق النظر بما يجري حولي، وعلى ما يبدو إن حاسة الشمّ آنذاك كانت قد بدأت تعين البصر والسمع في أداء وظيفتهما، فقوة رائحة الدخان المنبعث من أي قذيفة والاتجاه الذي تأتي منه تلك الرائحة كانت تعينني على تخمين الحي الذي سقطت عليه، لألعن قاذفها وأدعو لسكان الحي بالسلامة منها كما أنا السليمة في مكاني.. تماماً.
وشيئاً فشيئاً فيما بعد، اكتشفت فقداني أجزاء من كل حاسة من حواسي الخمس، حتى اللمس والتذوق إذ ما عدت أميز جيداً عن طريق اللمس بين مكون حار وآخر بارد، لأنّ مؤشر درجة غليان الحالة النفسية كان مرتفعاً جداً قياساً لبركان ناشط، أما بالنسبة للتذوق، فقد انعدمت هذه الحاسة مع المشاهد اليومية للأشلاء والدماء والمهجرين والمحاصرين ليصبح المذاق مرّاً فقط، وإن تعددت النكهات.


أما الحاسة السادسة والتي ملكتها سابقاً بفضل انتمائي العروبي، وفقدتها مؤخراً للفضل ذاته، والتي يطلق على صاحبها بالعامية (سرّه باتع) أو (مكشوف عنه الحجاب)، فقد اتضح أن الشعب العربي كله من الزعماء إلى المسؤولين الحكوميين إلى السياسيين إلى أطيافه كافة مثلي تماماً (سرّه باتع جداً)، وظهر ذلك جلياً علينا منذ أن شكل الغرب لنا حدود دولنا العربية وأخذ منّا فلسطين.
منذ أيام قرأت عن وجود ما يسمى بالحاسة السابعة والحاسة الثامنة. أما السابعة فهي موجودة فقط عند قلة من الأشخاص وتُمثّل بقوة طاقة المجال الكهرومغناطيسي الذي يحيط بهم ويؤثرون من خلاله لاشعورياً على الآخرين، ولهذا فهي توجد فقط عند الجبابرة المتسلطين، ويملكها أيضاً أصحاب الزعامات لمبدأ أو عقيدة أو فكرة، ومن خلالها يؤثرون في مريديهم، وعند انتهائي من القراءة عنها حمدت الله أن من يختص بها فقط فئة الزعامات، حتى لا نفقدها ذات يقظة مع فقداننا لبقية الحواس نحن الجماهير الشعبية المسكينة، إذ يكفينا ما فقدنا، وإن كنّا المُؤثر فينا من خلالها!
أما الثامنة فهي حاسة الزمن، أي إنها تتعلق بإحساس الإنسان بالوقت، وتتم معالجة أمرها في المخ، ومن دون شرح مفصل لها اختصاراً للوقت، فقد استنتجت من خلال قراءة تاريخنا بأحداثه المتوقفة عن إعمال العقل أن هذه الحاسة منعدمة في منطقتنا العربية منذ زمن طويل .. وما من داع لأن أبدي حالياً، وعلى عجالة شيئاً من الحزن على فقدانها ما دمنا أساساً ـ لا سابقاً ولا لاحقاً ـ لم نتفق على أسباب ذلك الفقد بشكل صحيح كي نعالج أمرها.
ويجرني الحديث في عدم الاتفاق إلى فقدان بيّن لتاسعة الحواس ولا أظنها آخر ما فقدناه أو سنفقده إذا استمرينا لسنين مقبلة على هذه البلادة في تقبل الفقدان. وقد رسا العلم إلى أن هذه الحاسة التاسعة تنتمي لعالم الحواس الافتراضية لأنه يصعب إخضاعها في العالم المادي للملاحظة المباشرة، لكن بعض الإشارات تؤدي إليها وهي «حاسة الضمير»، وما أكثرها في زمننا الإشارات التي توضح لنا وعبر حواسنا الخمس العضوية عدم وجود هذه الحاسة لدينا والتي لم يخطئ العلم عندما وصفها بالافتراضية، لا لكونها لا تخضع للملاحظة المباشرة كما قال الفلاسفة والعلماء، بل لكون حديثنا عنها في معترك ما نحن فيه من حروب وفقدان صار خيالياً، ويبدو لغيرنا من الأقوام مضحكاً ومدعاة للسخرية علينا.
أما الحاسة الأهم بين كل تلك الحواس البشرية والتي كانت أساس التطور الحضاريّ الإنسانيّ لدى بعض الأمم في النصف الثاني من القرن الماضي لأنهم أدركوا أن أي اختلال بآلية عملها لدى الفرد قد يؤدي إلى نتائج وخيمة على المجتمع ككل، وأن عملها بشكل سليم يكون مؤداه المنفعة العامة، فهذه الحاسة هي «حاسة الحبّ» التي ضاعت من الذائقة العربية الجماعية مما جعلها مصابة بداء انفصام عرى الحبّ، وصارت كلّ ذات ـ في وطننا المكلوم من فقدنا لهذه الحاسة ـ تائهة بمفردها وبغباء صاحب الملك الضائع صار كلّ منّا يدعي ملكيته للحبّ ويحارب جاره على ليلاه.
فكيف لأبجديتي أن تتنصل من كلّ هذا الفقد بالأحاسيس لتظهر سليمة معافاة، ومن دون أن يجعلها أتون الحرب المجنونة التي تعيشها واقعة في قبضة الخوف من إطلاق سراح مفردة الحب من دون أن تقبض عليها كلمة الحرب بتهمة انعدام الإحساس؟

No comments:

Post a Comment