Monday, November 14, 2011

مخاوف إيجابية - صالح الخريبي


أظن أن الشاعر الذي قال: «وما حيلة المضطر إلا ركوبها» كان يقصد الطائرة وليس أي شيء آخر، والبريطاني لا يطمح إلى أكثر من أن يصل إلى مطار المدينة التي يقصدها سليماً، وفي أمثاله: «الهبوط الجيد هو الهبوط الذي يجعلك تسير على قدميك على أرض المطار»، وكان همينجواي يقول إنه يتمنى كتابة رواية عن المخاوف التي يثيرها السفر بالطائرة، ولكن فولكنر سبقه إلى ذلك في روايته الرائعة «بايلون»، ويضيف: «لو شئت تحقيق أمنيتي، لأخذت رواية فولكنر وشطبت اسمه ووضعت اسمي عليها، ولكنه لن يقبل بذلك»، وكان الشاعر محمد القيسي يقول: «إن السفر بالطائرة قفزة في الظلام»، ويضيف: «لا إشارات مرور في الفضاء لترشدك».

والذين يخافون ركوب الطائرة كثيرون، وفي مقدمتهم الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، وقد سألته يوماً عن السبب فقال: «أشعر أنها أشبه ما تكون بتابوت كبير يحشر الركاب فيه سلفاً، بانتظار ما يمكن أن يحدث لهم» وأضاف: «لقد عاصرت الطائرة الشراعية، وذات المحرك الواحد، وبدأت حياتي مع بداية عصر الطيران، وها نحن نرى هذا العصر وقد وصل إلى إرسال مركبات إلى الكواكب الأخرى في مجموعتنا الشمسية، ومع ذلك فإنني لم أرَ الطائرة من الداخل حتى الآن». وكان عبد الوهاب يستخدم الباخرة في سفراته.

ويقول الفنان الياس الرحباني، الشقيق الثالث للأخوين رحباني، إن عدوى الخوف من ركوب الطائرة انتقلت إليه بالإيحاء من شقيقيه منصور وعاصي، ويضيف في مقابلة تلفزيونية أجريت معه: «كان ذلك عام 1962 عندما كانت فيروز تستعد لكي تستقل الطائرة إلى البرازيل، وفي المطار تقدم مني عاصي وهو ممتقع الوجه، وقال: خيي، شوف، لا تخاف، وبعد دقائق جاء منصور وكرر كلاماً مشابهاً، وراودتني الشكوك، وقلت في نفسي: ما داما يطلبان مني ألا أخاف، فمعنى ذلك أن هناك ما يستدعي الخوف، ودخلت الطائرة وكأنني أسير إلى حتفي».

وآرثر ميللر كان يخاف من فرجينيا وولف، وإليزابيث تايلور التي جسدت دور فرجينيا على الشاشة، تخاف من البقاء يوماً واحداً من دون زوج، فقد تزوجت ثمانية أزواج، آخرهم عامل في مطعم يقل عمره عن نصف عمرها، وبعضهم استمر زواجه منها أقل من عام. وفرجينيا وولف نفسها كانت تخاف من الصرصور، مثلها مثل أي أنثى في العالم.

وعلماء النفس لهم رأي طريف في هذا النوع من المخاوف يلخصونه بالقول: إنه تعامل إيجابي مع الخوف، فالخوف إحساس فطري فينا، وكل واحد منا يخاف من شيء ما، ولكن الذين يختارون موضوعاً غير مخيف، ويخافون منه، فإنما يفعلون ذلك للتخلص من الخوف الحقيقي في دواخلهم، ذلك الخوف الذي يشل حركتهم ويمنعهم من الاستمتاع بالحياة.

وعبد الوهاب، والرحابنة، بخوفهم من ركوب الطائرة تخلصوا من مخاوف أكبر، والمرأة التي تخاف من الصرصور أو الفأر مثلاً تخلصت من الخوف الحقيقي في حياتها، وقتلته، وبذلك وفرت لنفسها تلك الطمأنينة، والصفاء الذهني الذي جعل الرجل لعبتها.


Sent from my iPad 2 -  Ť€©ћ№©¶@τ

No comments:

Post a Comment