Sunday, April 10, 2016

قصة ائتلاف النفوس والأرواح واختلافها - الرؤية


للكاتب - محمد إفرخاس

من هو الإنسان في الأصل؟ الجسد أم الروح؟ وهل سمعت بعالم ما قبل الولادة؟ بمعنى أين كان الإنسان قبل ولادته؟ بل أين كانت روحه؟ تلك الروح التي عجز مفكرو العالم وأطباؤه عن إدراك كنهها وماهيتها؟ وهل يتذكر الإنسان لحظة دخول روحه إلى جسده؟

إن الغيب هو ما لا سبيل للإنسان إلى إدراكه، ولذلك نرجع إلى الدين ونصوص الوحي للتعرف إلى أحداث ووقائع وعوالم لا نعلم عنها شيئاً، وهي مع ذلك حقيقية وموجودة.

إنها قصة عالم الذر! والسؤال المحير: لماذا يتذكر البعض هذا العالم العجيب، وينساه الآخرون؟ وهل للعقل اللاواعي دور في الاستذكار؟

عندما مسح الله ظهر آدم وأخرج منه ذريته، قال آدم: يا رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية، فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون. ثم خلطهم حتى يتميزون، فناداهم فقال: «ألست بربكم قالوا بلى» الأنعام: 172. قالها مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، كلهم أقروا له بالربوبية في ذلك الوقت. والإنسان إن كان يوجه إليه الكلام، ويصدر منه الجواب، ويؤخذ عليه العهد، ويوافق عليه .. هذا دليل على أنه دخل الوجود، وأصبح ذا عمر موجود، فلذلك خاطبهم الله بذلك الخطاب فقال: «ألست بربكم؟»، وهم جميعاً أقروا بذلك، «قالوا: بلى» ، ثم أخذ عليهم العهد بعبادته وتوحيده، وألا يعبدوا الشيطان، قال سبحانه وتعالى: «ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم». يس: 60-61.

حياة الذر التي عشناها ولا يزال يعيشها الآن من لم يهبط إلى الأرض، تمنحنا الفطرة التي فطرنا الله عليها، وهي توحيد الله وعبادته والحاجة إلى الدين. وهذه الفطرة تبقى في الإنسان ما لم تفسد بمفسدات الفطرة، فالإنسان لو ولد في جزيرة معزولة في البحر ولم يلق أي معلم ولا مرب، فبلغ العقل والنضج لا بد أن يبحث عن شيء يعبده، ولا يمكن أن يدعي بفطرته أنه مستغن عن الدين أو مستغن عن معبود، ولا يمكن أن يدعي الربوبية لنفسه إذا كانت فطرته سليمة. بل يبحث عن معبود، فإن هدي إلى عبادة الله عبده، وإلا اتخذ آلهة أخرى، عبد حجراً، أو شجراً، أو غير ذلك. لكن لا يمكن أن يكون الإنسان بأصل فطرته غنياً عن العبادة! غنياً عن الرب! .. بل لا بد أن يجد نفسه مضطرة للعبادة، وهذه فطرة باقية من عالم وحياة الذر. قال الله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون». سورة الروم: 30.

في عالم الذر تكون الأرواح محبوسة في السماء منذ ذلك العالم الأول، وتنزل إلى الأرض بالتدريج، فإذا مكث الجنين في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون أربعين يوماً علقة، ثم يكون

أربعين يوماً مضغة، ثم بعد ذلك ينفخ فيه الروح، فتنزل روحه من السماء الدنيا، يأتي بها الملك ويؤمر بنفخها فيه، وبأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.

وهذا التعارف الذي حصل بيننا في ذلك العالم هو الذي تقع به الألفة في الدنيا، فترى الإنسان الذي لا تجمعك وإياه قارة واحدة، ولا لون واحد، ولا لسان واحد، وتجد نفسك منجذبة إليه كأنك عشت معه زمناً طويلاً، من أين كان ذلك؟ إنما كان ذلك التعارف في الزمان الأول، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف». (صحيح البخاري).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف». (رواه مسلم).

وهذا التعارف من حكمة الله، وفيه تحقيق الإخاء، ولو شاء الله لخلق البشر كما خلق الشجر، كل شجرة لها أصل تنبت فيه، لكن الله أراد بحكمته البالغة أن يوحد البشر، فجعلهم «من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً» النساء:1. ليترابطوا فيما بينهم، لأن الله علم أن الإنسان الواحد عاجز عن صناعة ما يحتاج إليه. فالإنسان يحتاج إلى الطعام والشراب واللباس والسكن، وهذه أربعة احتياجات هي أكبر احتياجات الإنسان، وقد ضمنها الله لآدم في الجنة فقال: «إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى». طه: 118-119.

فهذه أربعة احتياجات هي: الطعام والشراب والسكن واللباس. والإنسان محتاج إليها دائماً لا يستغني عنها، ولا يستطيع توفيرها لنفسه بنفسه. لو قدر أنه اشتغل بواحدة منها، بدأ يحفر في الأرض للبحث عن الماء، فمن سيرفع عنه التراب إذا وصل الحفير إلى مكان لا يستطيع إخراج التراب منه؟ يحتاج إلى شخص آخر! ولو أراد الطعام فزرع في الأرض، هل يستطيع أن يزرع ثم بعد ذلك أن يرعى؟ ثم بعد ذلك يسقي؟ ثم بعد ذلك يصبر إلى أن ينضج الحب؟ ثم بعد ذلك يحصده، ثم بعد ذلك يبدأ في طحنه وتوصيله، ثم بعد ذلك في طبخه وإنضاجه؟ هل يستطيع أن يقوم بكل هذه الأشياء وحده؟ من المستحيل أن يقع ذلك، وهكذا في كل شؤون حياته، فهو محتاج إلى من يعينه! فلذلك جعل الله البشر يترابطون فيما بينهم.

قال الخطابي في تعليقه على حديث «الأرواح جنود مجندة»: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد، وأن الخير من الناس يحن إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر، فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت. ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام، وكانت تلتقي فتتشاءم، فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم.

وقال غيره: «الأرواح» التي تقوم بها الأجساد «جنود مجندة» أي: جموع متجمعة وأنواع مختلفة، «فما تعارف» أي: توافق في الصفات وتناسب في الأخلاق «منها ائتلف» أي: ألف قلبه قلب الآخر وإن تباعدا، كما يقال: ألوف مؤلفة وقناطير مقنطرة، «وما تناكر منها» أي لم يتوافق ولم يتناسب «اختلف» أي نافر قلبه قلب الآخر وإن تقاربا جسداً.

القلوب والأرواح البشرية التي هي النفوس الناطقة مجبولة على ضروب مختلفة وشواكل متباينة، فكل ما تشاكل منها في عالم الأمر تعارف في عالم الخلق، وكل ما كان في غير ذلك في عالم الأمر تناكر في عالم الخلق، فالمراد بالتعارف ما بينهما من التناسب والتشابه، وبالتناكر ما بينهما من التباين والتنافر، وذلك لأنه سبحانه عرف ذاته للأرواح بنعوته، فعرفها بعض بالقهر والجلال، وبعض باللطف والجمال، وبعض بصفات أخر، ثم استنطقها بقوله: «ألست بربكم؟» ثم أوردها في الأبدان، فالتعارف والتنافر يقعان بحسب ذلك، والتعارف والتناكر بحسب الطباع التي جبل عليها من خير وشر، وكل شكل يميل إلى شكله، فالتعارف والتناكر من جهة المناسبة المحكمة بين الفريقين، فيميل الطيب للطيب والخبيث للخبيث ويألفه، ومنشأ ذلك أحكام التناسب.

ولهذا قال الشافعي: العلم جهل عند أهل الجهل، كما أن الجهل جهل عند أهل العلم.

وقيل: إن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين، ومعنى تقابلها: أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف. ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا، لأنه محمول على مبدأ التلاقي، فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب. وأما في ثاني الحال، فيكون مكتسباً لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة، كإيمان الكافر وإحسان المسيء. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «جنود مجندة» أي: أجناس مجنسة أو جموع مجمعة.

قال ابن الجوزي: ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح، فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته، حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه.

وروي عن أبي الدرداء أنه قال: «إياكم ومن تبغضه قلوبكم». أخذ هذا المعنى منصور الفقيه الشافعي فقال:
(شاهدي ما في مضمري
من صدق ودي مضمرك)
(فما أريد وصفه
قلبك عني يخبرك)
وقال بعضهم:
إن القلوب لأجناد مجندة
قول الرسول، فمن ذا فيه يختلف؟
فما تعارف منها فهو مؤتلف
وما تناكر منها فهو مختلف

أجل، الأرواح جنود، مثلما الأبدان جنود، تجد الإنسان يحب إنساناً آخر بمجرد أن ينظر إليه، ويشعر أنه يعرفه من قبل، والأرواح من جنود الله عز وجل، يعارفها إلى بعضها بما شاء سبحانه وتعالى، فما عرفه الله عز وجل على غيره في وقت يعلمه الله عز وجل تجده يحبه ويميل إليه! فكأن الإنسان ينزل على الشبيه له.
والتآلف والمحبة التي تكون بين القلوب تكون في الأرواح قبل ذلك، فالمرء مرآة قرينه، والمرء ينزل على شكيله ومن كان مثله.

No comments:

Post a Comment