Tuesday, November 15, 2011

أفكار مستعصية - صالح الخريبي


في مقدمته لأحد كتبه، يقول أبو الفرج الأصفهاني: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً، إلا قال في غده: لو غير هذا المكان لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل».. ويعلل الأصفهاني ذلك بهيمنة الإحساس بالنقص على الذات البشرية، باعتبار أن الكمال لله وحده، أما صموئيل بيكيت، رائد اللامعقول في هذا العصر اللامعقول، فإنه يعلل ذلك بقوله: «إن اللغة فقدت جزءا كبيرا من وظيفتها كوسيلة للتواصل».

وإلى جانب هيمنة الإحساس بالنقص على الذات البشرية، هناك معركة الكاتب اليومية في التعبير عن نفسه، وفي هذه المعركة يخرج الكاتب خاسرا معظم الأحيان، وفي كل مرة ينتهي فيها من كتابة مقال، يلحظ وجود فارق هائل بين الصورة التي كانت في ذهنه قبل الكتابة، و الصورة التي ترتسم في ذهنه عندما يقرأه كقارئ، فيحس بأن أفكاره تعرضت لعملية تشويه مؤسية، وأن القارئ حصل منه على نصف مقال، أو ربع مقال، وربما أقل من ذلك.

وفوق ذلك كله، هنالك رغبة الكاتب القوية في الاعتصام بالصمت، بسبب إحساسه بلا جدوى ما يكتبه، وبأن «العرب لا يقرأون».، إضافة إلى عدم فاعلية الكلمة في عصر خرجت فيه شريعة الغاب من الغاب، وتحولت إلى أساس للتعامل حتى بين الدول الكبرى.

وطاغور شاعر الهند الأكبر الذي كان ينصح الفقراء ببيع خبزهم وشراء وردة بثمنه، يقول: «إن كل شيء يتحقق يفقد قيمته، حتى الحب يفقد قيمته عندما يتحقق»، وفي إحدى قصائده يقول: «إن أجمل الأيام هي تلك التي لم أعشها بعد، وأجمل القصائد هي تلك التي لم أكتبها بعد». وإذا كان برنارد شو يقول: «إن الكلمة الإنجليزية يتغير معناها عندما تعبر قناة السويس». فإن الكاتب والشاعر محمد الأسعد يقول: إن الكلمة يتغير معناها بمجرد عبورها الشفتين، وإن القصائد والمقالات التي كتبها ليست بأكثر من عملية تشويه خطيرة مارسها ضد نفسه، وإنه من خلالها عرض نفسه للقراء جسدا من دون رأس، أو من دون ذراعين، لأنه لم يتمكن من التعبير عما في داخله بصورة صحيحة.

وأذكر أني سألت أحد الكتاب الكبار عن الأسباب التي دفعته إلى إصدار أحد كتبه فقال لي: «كانت ملفاتي مزدحمة بقصاصات الأوراق، أنقلها من مكان إلى مكان، وأجد صعوبة في جمعها، وحفظها، فرأيت أن جمعها في كتاب يسهل علي أمر حفظها»، بمعنى: إن الكتاب كان مجرد ملف شخصي له. وهذا ما يفعله روجيه جارودي، فكل الكتب التي أصدرها في الآونة الأخيرة هي مجموعة قصاصات من مصادر مختلفة حول موضوع معين.

وتقول غادة السمان: إن أفضل كتبها هو الكتاب الذي ستنشره ذات يوم ويضم مجموعة من المقالات التي لم تجد طريقها إلى النشر، لسبب أو لآخر، ومن بين هذه الأسباب أن المقالات لم تنشر لأنها لم تكتب أساسا، فهي لا تزال مجرد أفكار في ذهن هذه الكاتبة الملهمة. وعندما سألوا الشاعر إقبال عن جديده في الفكر والشعر والفلسفة قال: «في رأسي فكرة لو قدر لها أن تتحول إلى كلمات لكانت أجمل ما كتبت».. و مات إقبال من دون أن يحول هذه الفكرة إلى كلمات، رغم أنه خلف وراءه عشرات الكتب والقصائد والأفكار الفلسفية.

Sent from my iPad 2 -  Ť€©ћ№©¶@τ

No comments:

Post a Comment